الاستثمار في البحث العلمي: التكلفة والعوائد
تشير الدراسات الحديثة في مجال اقتصادات البحث العلمي والتطوير إلى أن هناك علاقة وطيدة بين تنمية البحث العلمي والتنمية الاقتصادية، فتوجه الأبحاث العلمية للابتكار العلمي والبحوث التطبيقية يؤدي إلى عائد اقتصادي مرتفع وملاحظ، ومن ثم يتحول في العموم إلى منتج استثماري داعم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
فالبحث العلمي في هذه الحالة وبهذا المعنى وعلى هذا الأساس يعتبر استثمارًا اقتصاديًا من الدرجة الأولى، وليس ترفًا أكاديميًا عشوائيًا، وعليه أصبح تشجيع البحث العلمي المتصل بالتكنولوجيا ونقلها يعتبر من الأمور المهمة إذا ما أريد للتكنولوجيا الحديثة أن تأخذ مكانتها الإيجابية في دفع عملية التنمية، ويتم ذلك بالاستفادة من تجارب وخبرات الدول الأخرى في توطين التكنولوجيا والتنمية (الصين وماليزيا واليابان) أنموذجًا. فأهمية البحث العلمي ترجع إلى أن الدول المتقدمة اقتصاديًا أدركت أن عظمتها وتفوقها يرجعان إلى قدرات أبنائها العلمية والفكرية والسلوكية.
ولقد جرت عادة المستثمرين ورجال الأعمال في القطاع الخاص على إجراء دراسات الجدوى الاقتصادية لأي مشروع يقدمون على الاستثمار فيه، ويتم ذلك عبر حساب تكاليف المشروع بكافة أشكالها (الرأسمالية والجارية) ثم مقارنتها بالعوائد المتوقعة خلال فترة زمنية محددة، وفي بعض الأحيان؛ تضاف بعض الاعتبارات الأخرى غير المادية كالاجتماعية، والتي لا يمكن قياسها حسابيًا، بل يتم إعطاؤها عدد من النقاط حسب أهميتها بهدف تقدير قيمتها أثناء إجراء المقارنة.
وقد زاد التحوّل الذي يجري اليوم في معادلة الاقتصاد الحديث في تعقيد هذه المعادلة، إذ لم تعد عناصر الاستثمار التقليدية من الأرض والعمل ورأس المال معمولًا بها اليوم، بل أصبح التركيز منصبًا على كل من الإدارة الفعالة والتدريب العالي والمعرفة المتجددة. كما أن احتكار المعلومات بات عملة صعبة في ميدان الاستثمار المعاصر، مما أعطاها قيمة رمزية عالية، وجعلها موضع اهتمام الحكومات والمؤسسات، ودفع بالقوانين الدولية للتحرك في سبيل حماية حقوق ملكيتها.
ومن هذا المنطلق نجد أن قيمة معظم السلع المتداولة في التجارة الدولية المعاصرة الناتجة عن البحث العلمي تتحدد بناء على كمية ونوعية التقنية المستخدمة في إنتاجها، ولا يقتصر ذك على قطاعي الصناعة والخدمات فحسب، بل يمتد إلى كافة القطاعات الحكومي منها والخاص.
وقد ساهم الاتجاه الحديث للاقتصاد المفتوح، وانفتاح الاقتصادات العالمية بعضها على بعض في ارتفاع وتيرة التسابق لتطوير تقنيات وأساليب جديدة للإنتاج بهدف المحافظة على الحصص في الأسواق العالمية، وقد انعكست زيادة حدة المنافسة بين الدول في إيجاد اهتمام متزايد بالاستثمار في البحث العلمي حتى أضحت ميزانيات وحدات البحث العلمي والتطوير في يومنا هذا ميزانيات مفتوحة، الهدف منها توفير كافة الموارد اللازمة للمحافظة على الميزات النسبية في مجالات الإنتاج السلعي والخدمي المختلفة وفي تكريس الريادة في بعض هذه المجالات بالنسبة للدول الصناعية المتقدمة.
ومن ناحية أخرى أثبتت العديد من الدراسات أن الاستثمار الخاص في البحث العلمي له عائد مؤكد وكبير، وإن كان تحقيقه قد يتأخر نوعًا ما إلا أن العائد يصل في بعض الأحيان إلى نحو 35 في المئة من إجمالي تكلفة الاستثمار، وهذا يفسر الاهتمام المتنامي في أوساط الشركات العالمية الكبيرة بنشاطات البحث والتطوير كما يعلل في الوقت ذاته ازدهار مؤسسات التمويل – خصوصا في الدول المتقدمة – التي تعني بهذا النوع من الاستثمار فيما يعرف بمؤسسات رأس المال المبادر أو المخاطر.
ومن هنا يعتبر البحث العلمي بشقيه القاعدي او الأساسي الذي يرمي إلى التعرف على المبادئ العامة المنظمة لمعارف جديدة، والتطبيقي والذي يهدف للوصول إلى حلول جديدة ومحددة لمسألة معينة أو تطوير منتجات أو أساليب جديدة عنصر ذو أهمية عالية من عناصر الإنتاج. ولا تقتصر مخرجات البحث العلمي في مجالات الإنتاج على تطوير تقنيات جديدة ومنتجات أفضل فحسب؛ بل تتجاوز ذلك إلى زيادة الإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج الأخرى، من رأس مال بشري ورأس مال مادي وموارد طبيعية، إذ تتحسن كفاءة هذه العناصر عند اتصالها بتقنيات الإنتاج الحديثة وبالتالي يتعزز الإنتاج كمًا وكيفًا.
وفي الختام؛ بالعودة إلى الدول المتقدمة في الجانب الاقتصادي على مستوى العالم نجد أن التركيز كان في المقام الأول سواء من القطاع الحكومي أو القطاع الخاص على البحث العلمي والتطوير، وهذا ما يجب على البلدان العربية أن تنتهجه وقد انتهجته بعض الدول مثل السعودية والامارات، ولكن تحتاج باقي الدول العربية إلى هذا النهج، حتى تتطوّر وتكون من صنّاع التحوّل الحاصل على مستوى العالم في كافة النظم والقطاعات الاقتصادية الجديدة.